صربيا: سفينة بلا قبطان ولا يابسة في الأفق

25.05.2016

عند تحليل الحالة الصربية (المنطقة العرقية الصربية بشكل عام) نواجه تناقضين في المبادئ الجيوسياسية والجيوستراتيجية، إذ يمكننا أن نرى مسارا مستمرا بدون عوائق من صربيا نحو الفضاء الجيوسياسي لحلف شمال الأطلسي ومسارا متنافرا مع التكامل الأوراسي. دورة كاملة من التآكل بدأت قبل خمسة عشر عاما بعد تغييرات تشرين الأول/أكتوبر، في عهد حكومة الحزب الديمقراطي برئاسة بوريس تاديتش والمؤيدة لأوروبا بشكل صريح، ولم يتوقف هذا النهج أو يتباطأ في عهد حكومة الحزب التقدمي الصربي برئاسة الكسندر فوتشيتش، بل على العكس من ذلك، صار أكثر وضوحا. 
الكسندر فوتشيتش، الذي وصل إلى السلطة عبر استخدام الخطاب القومي المعتدل، قام بإجراءات ملموسة للاقتراب من حلف شمال الأطلسي أكثر مما فعلته حكومة الحزب الديمقراطي برئاسة بوريس تاديتش. يمثل الكسندر فوتشيتش ظاهرة سياسية نادرة جدا وفريدة من نوعها في مجمل التاريخ السياسي الصربي الحديث.
هذا السياسي يمثل الظاهرة الأكثر تناقضا بين القول والفعل منذ تأسيس الدولة الصربية الحديثة في عام 1815. هو يتحدث عن ("المصالح الصربية الوطنية" و"رفاه صربيا" و"السياسة المتوازنة بين الشرق والغرب" وغيره مما يشبه مثل هذا الخطاب القومي...) وما يفعله بالمعنى السياسي (توقيع اتفاق بروكسل والتوجه الليبرالي الجديد المعادي للقومية بما يخص إستراتيجية الاقتصاد الوطني من خلال الإلغاء التدريجي للمؤسسات الصربية في كوسوفو والتصديق على الاتفاق مع منظمة حلف شمال الأطلسي عام 2016، والتجاهل التام لعمليات التكامل الأوراسي من جميع النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية، وما إلى ذلك).

الكسندر فوتشيتش، من حيث التناقض بين الأقوال والأفعال، ينطبق عليه تماما الشكل المعمول به في وسائل الإعلام باستخدام الإستراتيجية الدعائية التي تنفذها الولايات المتحدة. فأثناء تنفيذ وعادة قبل تنفيذ الإجراءات السياسية والعسكرية التي يراد فعلها (مثل بعض الاعتداءات على الصعيد الدولي)، يكون الخطاب المتبع يناقض الفعل المراد تنفيذه من قبل الولايات المتحدة الأمريكية. كمثال على ذلك ترافق تنفيذ جميع الاعتداءات وجرائم الحرب العسكرية التي نفذتها الولايات المتحدة بعد عام 1945، بخطاب رسمي حول هذه الأعمال على النحو التالي: "جلب الحرية" و"تطبيق الديمقراطية" والوقوف ''ضد الدكتاتور" لكن في نفس الوقت "التعاطف مع السكان"، مع كثير من الابتذال والنفاق والأكاذيب التي تعبر عن نقص حاد في الذوق السليم ... الكسندر فوتشيتش يمثل الطالب الأمريكي الناجح.
دعونا الآن نكرس اهتمامنا بالمظاهر السياسية لعمليات التكامل الأوراسي داخل الفضاء السياسي الصربي الحالي.

الأنصار النشطون للأوراسية في صربيا في هذا الوقت يمكن تصنيفهم في معسكرين. المعسكر الأول يتكون من الشرفاء المحبين لروسيا الذين يعانون للأسف نقصا في الموظفين والموارد، وكذلك نقصا في النظرة السياسية الإستراتيجية طويلة الأمد. في هذا المعسكر يمكننا تحديد عدة "أحزاب من الأقليات الروسية" والحركات السياسية التي تشارك على مختلف المستويات في الانتخابات. أما المعسكر الآخر فيتمثل بتلك الخيارات السياسية التي تدعي رسميا التوجه الأوراسي لكنها تمثل أيضا الفساد (بالمعنى السياسي)، وهي تتعاون من خلال مصالحها مع الحزب الحاكم.
السياسة الخارجية للحزب التقدمي الحاكم سياسة ذات توجه أطلسي بشكل واضح (الاندماج في الاتحاد الأوروبي باعتباره أحد أهم التوجهات، ونهج التقارب التدريجي مع حلف شمال الأطلسي). في هذا المعسكر تتواجد مجموعة من الأحزاب مثل الحزب الراديكالي الصربي والحزب الديمقراطي الصربي وحركة "دفيري" (أبواب) اليمينية والحزب الاجتماعي في الجبل الأسود الذي يقوده نيناد بوبوفيتش. مع مجموعة من السياسيين المحترفين (بالمعنى السلبي للكلمة) لأن معاييرهم "السياسية" المتبعة في السياق الديمقراطي الليبرالي الجديد، تصنف بأنها مجرد نضال بالكلمات من أجل النجاح في الوصول إلى السلطة للسيطرة على الموارد والأموال، وليس اعتقادا أصيلا وإيمانا بأية فكرة أو إيديولوجيا. هؤلاء السياسيون يجب أن يكونوا فاسدين من أجل تجنب التناقض مع الفكرة "السياسية" ذاتها. لا يركز هؤلاء  المهنيون أبدا على الفكرة، ولكن يركزون على الحسابات والفوائد قبل وبعد الانتخابات. من يجذب الأنظار في هذه اللحظة على المشهد المسرحي السياسي الصربي هو الحزب التقدمي الصربي والسيد فوتشيتش (وبالنيابة عن المراكز الأطلسية في السلطة).
الوضع الجيوسياسي الحالي في  صربيا حرج للغاية. ومن المهم جدا أن نذكر في هذا الصدد أنه ليس هناك سوى مناورة سياسية جذرية ومختلفة مقارنة مع ما يجري الآن، يمكن من خلالها إعادة توجيه صربيا بعيدا عن التوجه الأطلسي.
ويتمثل هذا بإعادة صربيا إلى الهوية الوطنية الخاصة بها، وبالتالي إلى مصالحها الوطنية. وإن استمرار انضمام صربيا إلى المنطقة الجيوسياسية الأطلسية يمثل عملا تخريبيا مباشرا موجها ضد صربيا نفسها على المدى الجيوسياسي والجيواستراتيجي الطويل، وضد المصالح الاقتصادية والثقافية والروحية والتاريخية لصربيا. نحن نشهد وضعا مزريا للبلاد والأمة بسبب الحكومات الفاسدة الموالية للأطلسية على مدى عقد ونصف من الزمن الماضي حيث وضعت صربيا في وضع تاريخي خطير. إنها ستصبح في حالة من التحطم والغرق إذا فشل العمل السياسي الراديكالي الافتراضي مثل قارب تحمله التيارات القوية وغير المرئية نحو التحطم والغرق، كما قال الكسندر دوغين، بالقرب من منحدرات "الأرض الخضراء الميتة" في مكان ما في الغرب، علينا إغلاق هذه الأرض الشريرة بكل الوسائل، بل إن هذا من "واجبنا الديني".

والسؤال الرئيسي هو من الذي يقود السياسة الصربية المعاصرة بذلك الوعي وبذلك الموقف السلبي باتجاه "الأرض الخضراء الميتة" وفي الوقت نفسه يبتعد عن الموقف الإيجابي نحو أوراسيا، الذي يفرضه "الواجب الديني"، أو على الأقل المعرفة "الفكرية" أو "الموقف الأيديولوجي". عدد قليل جدا من الناس لديهم الفهم العميق والمعرفة لشرح فكرة الآوراسية  للناخبين الصربيين. وللأسف فإن المحبين لروسيا ليسوا واعين بما فيه الكفاية ليركزوا على فكرة الأوراسية، وكذلك فإن السياسيين "المحبين لروسيا" يعتمدون على شعور عاطفي ايجابي بسيط جدا تجاه روسيا (على سبيل المثال، المعسكر الأول المذكور أعلاه من هواة السياسية) أو باستخدام "المحبين لروسيا" (المعسكر الثاني المذكور أعلاه من الخيارات السياسية الفاسدة) كوسيلة لتحييد المبادرات الأوراسية الأصيلة في السياسة الصربية، وتستخدم من قبل من قبل الحزب التقدمي الصربي الحاكم الذي يدعم بحزم التوجهات  الأطلسية (الاندماج في الاتحاد الأوروبي، وعاجلا أم آجلا الاندماج في منظمة حلف شمال الأطلسي).
إن فهمنا لهذه الفكرة يجعلنا نعتقد أن خيارا افتراضيا محتملا وفعالا في هذه المرحلة  يمكن أن يسهم في تخريب السياسة الصربية المؤيدة للأطلسية، لصالح الدولة الصربية والمصالح الوطنية.
إن الفكرة والمهمة الأخيرة لهذا التخريب تكمن في تحقيق التجانس في المنطقة السياسية الصربية والروسية. إن هذه المنهجية تعتمد على إشراك الأحزاب السياسية القائمة بالفعل في روسيا في الانتخابات في صربيا. وهذا يشبه الحالة بين صربيا وجمهورية صربسكا في الجزء الثاني من التسعينات عندما شاركت الأحزاب الصربية في انتخابات جمهورية صربسكا. في هذه الحالة، إن ما يبدو لوهلة وكأنه فقدان للسيادة، سيكون أساسا لإستراتيجية استعادة السيادة التي سلمت إلى الغرب في الواقع، أي إلى بروكسل والاتحاد الأوروبي، من قبل الحكومتين الصربيتين حكومة بقيادة التحالف الديمقراطي الصربي وحكومة الحزب التقدمي الصربي.

النقطة الحرجة في هذه الفكرة من التخريب السياسي تعتمد العمل على مستوى القاعدة، الذي يقوم على المشاعر الإيجابية تجاه روسيا من قبل الصرب، وهو اتصال بين الأوراسيين الأصيلين في صربيا، ذوي الجذور الراسخة حول  فكرة الأوراسية ومن ذوي الخبرة السياسية الكافية من جانب، مع الأوراسيين الأصلاء داخل المشهد السياسي الروسي أو الحكومة الروسية من جانب آخر. وكما في صربيا، فإن الفضاء السياسي الروسي هو أيضا في سياق المواجهة بين مختلف المجموعات الأوراسية الأصيلة والليبراليين والأطر القديمة الخاملة من كوادر الفترة التاريخية السابقة، ومراكز مختلفة من السلطة من الذين يقاتلون من أجل حصتهم من الكعكة السياسية.  لذلك فإن هذا الاتصال بين العناصر الروسية والصربية سيكون ضروريا لتحقيق الهدف ذاته وقد يكون ضروريا لخلق كوكبة جيوسياسية جديدة في جنوب شرق أوروبا وخارجها.
الطريقة هي أن نضع أمامنا التناقض بين الإستراتيجية الجيوسياسية التقليدية الروسية التي يمكن تعريفها بمصطلح "إستراتيجية الإمبريالية"، وعلى الجهة المقابلة، فإن الإستراتيجية الأطلسية يمكن وصفها  "بالشبكة".

ان روسيا تصرفت دائما بشفافية ومن خلال الصيغ الرسمية والدبلوماسية والسياسية مع دول العالم الأخرى. وغالبا ما تصرفت القوى الغربية والولايات المتحدة وغيرها من خلال تطبيق صيغ مختلفة من أشكال الحروب وخاصة الحروب المختلطة، وكذلك من خلال "الهجمات الشبكية" المختلفة (أو الدعم) على العديد من المستويات وباستخدام الاستعارة  نقول على عدة طبقات. في سياق التحليل السابق سيكون من الضروري لروسيا أن تظهر شيئا من شأنه أن يشبه هجوم "الشبكة" على الحكومة الصربية ذات التوجه الأطلسي. على وجه الخصوص - من خلال التواصل ومن خلال دعم العناصر الأوراسية الأصيلة، أو لنقل ذلك بشكل مختلف من خلال "أداة" في صربيا (التسجيل والمشاركة في الانتخابات من خلال الأحزاب السياسية الموجودة بالفعل في روسيا). وسيكون الهدف النهائي أن يحل قيطان جديد للسفينة محل القائد الحالي ليجلب صربيا إلى شواطئ الشرق الآمنة.