أوروبا تترقب استفتاء بريطانيا: معركة «العقول والأنوف»
كان رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون يحضر إلى بروكسل بمزاج المقاتل. غالباً ما يأتي ليقف أمام الكاميرات بملامح الخارج من التحمية قبيل القمم الأوروبية، ليقول إن لديه شيئاً سينتزعه في الداخل. آخر شيء كان يمكن أن تعكسه تصريحاته أنه سيجلس مع شركاء، يجمعهم اتحاد أوروبي. يدفع كاميرون الآن ثمن سياسةٍ ساهم بنفسه في تكريسها، فيما يتضرع طالباً من البريطانيين التصويت لمصلحة عدم الخروج. الاستفتاء المصيري يوم الخميس المقبل، ليس فقط لبريطانيا، بل لمستقبل التكتل الأوروبي.
لم تبق دولةٌ شريكة أو حليفة أو مؤسسة مالية دولية إلا وحذرت البريطانيين من مخاطر الخروج، خصوصاً الخسائر الاقتصادية المتوقعة، لكنهم حتى الآن يميلون لمعاندة تلك النصائح. العناد يربح إحصائياً حتى الآن. ثمة تقارب كبير بين المعسكرين، لكن معظم استطلاعات الرأي تعطي الأفضلية لحملة الخروج.
ازدادت مكاسب الداعين للخروج بعدما وقف الرئيس الأميركي باراك أوباما في لندن معلناً أن بريطانيا أقوى إذا بقيت، ليبرر للناخبين بأنه يتدخل من موقع الصديق الحريص. تكرر الأمر مع تحذيرات صندوق النقد الدولي، ثم «مجموعة السبع» للاقتصادات المتقدمة. الوضع من سيئ إلى أسوأ كلما صدرت نسخة جديدة من إعلانات «إحذر التصويت للخروج».
وفّرت تلك التحذيرات مادة سخرية دسمة لقادة حملة الخروج، مستخدمين إياها لتعزيز رسائلهم وحججهم. أكثر من نجح في ذلك كان حزب «الاستقلال» بقيادة نايجل فاراج. حينما سألت «السفير» روجر هيلمر، النائب الأوروبي عن الحزب، عن رأيهم بتلك التحذيرات بعيداً عن الإعلانات الدعائية، ردّ بأن «ما رأيناه هو تفكير ما أسميها مجموعة النخبة الحاكمة، إنهم قادة دول يعملون مع بعضهم»، قبل أن يضيف: «ديفيد كاميرون يطلب من الرئيس أوباما إلقاء خطاب يكتبه له بنفسه. ديفيد كاميرون يذهب إلى مجموعة السبع ويطلب من دولها إصدار بيان مشابه، فالحقيقة إنها القصة ذاتها التي تخرج دائماً. نريد أن نكون حلفاء لأوروبا، لكن كأمة مستقلة وليس كمحافظة في بلد الآخرين».
التعليق الأخير يعكس أحد أهم أساسات حملة الخروج، رفض ما يسمونه «التخلي عن السيادة» الوطنية لمصلحة التشريعات الأوروبية ومؤسسات بروكسل المركزية. الحملة ضربت بذلك على عصب حساس عند البريطانيين، لتقول لهم أيضاً إنهم فوق ذلك يدفعون من جيوبهم لتمويل هذا «التخلي». المساهمة البريطانية في تمويل الاتحاد تعني 350 مليون يورو أسبوعياً، الرقم الذي تحول إلى شعار حملة الخروج، من دون حساب مسائل أخرى تجعل المساهمة صفرية تقريباً.
ظهر أن لا شيء يخيف الغالبية البريطانية الراغبة بالطلاق من العائلة الأوروبية، حتى لو قيل إنهم ذاهبون إلى انتحار اقتصادي. بعض من رصد تذبذب الاستطلاعات قال إن المبالغة في «العواقب» جاءت بنتائج عكسية. وقفت «الغالبية» عاكسة قصة الملك الحزين، فبدل المهرجين هناك فزاعات. كأنهم دخلوا في لعبة كهف الأشباح، مصرين على الخروج منها مبتسمين. تقريباً كل مراكز القوة في الكرة الأرضية تحاول إخافتهم، لكن ابتسامتهم تزداد اتساعاً.
بعض المنظمات التي تقف في الوسط، أو تدعي أنها كذلك، تقول إن لديها تفسيراً لذلك. آلي رينيسون، مسؤولة السياسة الاقتصادية في «إل أو دي»، التي تعتبر أكبر منظمة لقادة الأعمال في بريطانيا، تقول خلال مقابلة مع «السفير» إن الأرقام الكبيرة لا تعني شيئا للناخبين إن لم تقسّم على جيوبهم. اعتبرت أنه «سيبقى الطرفان يلقيان بالمزاعم ضد بعضهما، لكن ما يعني الناس والأعمال في النهاية ليست الأرقام الكبيرة، بل كيف يمكنك جعلها تعنيهم في مجتمعاتهم المحلية، مثلاً التأثير على الوظائف وعلى العائلات».
جمعت حملة الخروج كل ما يمكن من سلبية حول سياسات الهجرة الأوروبية. كان لديها رقم آخر لتلمّعه، فالعام الماضي وصل بريطانيا نحو 333 ألف مهاجر من مواطني الاتحاد الأوروبي، ما جعلها ثاني أكبر نسبة قياسية. التخويف من المهاجرين جلب مكاسب مهمة لحملة الخروج، مع ترويج أنهم مسؤولون عن انكماش الأجور وارتفاع تكاليف السكن وتراجع نوعية الخدمات العامة.
ضرب قادة حملة الخروج تحت الحزام، خصوصاً حزب فاراج، بالخلط والتشويش مع تدفقات اللاجئين الحالية على أوروبا، رغم أن بريطانيا لا تتأثر بها لكونها خارج منطقة شنغن للتنقل الحر، كما أنها مستقلة بالنسبة لسياسات الهجرة واللجوء الأوروبية. صحيح أن هناك مهاجرين أوروبيين، لكن تنقلهم تشرّعه قوانين حرية الحركة والعيش بين دول التكتل الأوروبي، وهي إحدى الركائز الرئيسية للمعاهدات المؤسّسة.
لكن مسؤولين أوروبيين لديهم تفسيرات أخرى لعناد البريطانيا، يدور في فلكها أيضاً عامل الاسقاطات الإحصائية. شاع أن ما يحصل الآن هو معركة بين القلوب والعقول، لكن مسؤولاً أوروبياً علق بسخرية إن الأفضل تسميتها «معركة العقول والأنوف»، في إشارة إلى الاحساس الطاغي بـ «الأنفة» البريطانية، ذات الجذور التاريخية في التعامل مع باقي أوروبا من موقع فوقي.
بتعبير أكثر دقة، إنها «الاستثنائية» البريطانية، التي تحدث عنها بالنقد هارولد ماكميلان، أول رئيس حكومة طلب عضوية الجماعة الأوروبية سنة 1960. الطلب رفض مرتين، قبل أن يزول الفيتو بذهاب الرئيس الفرنسي شارل ديغول، وتنضم بريطانيا عام 1973. لكن حينما قرر ماكميلان تقديم طلب العضوية كان حصل على دراسة سريّة مفصّلة، طلبها بنفسه، تستشرف مستقبل بريطانيا لعشر سنوات.
الخلاصة كانت واضحة، فبعد ستة أشهر، طلب ماكميلان العضوية الأوروبية. تحدث ممهداً لذلك عن ضرورة التحلي بالواقعية، على اعتبار أن ازدهار بريطانيا سيكون شاقاً بمعزل عن محيطها الاوروبي، على مرأى من نجاحه الواضح حينها بعدما سار في مشروع إندماج تدريجي. حينما كان يجابه بحجج «التفرّد» البريطاني، كان يردد بأن تلك التعابير تنتمي لخطاب «عفا عليه الزمن»، حينما كانت بريطانيا قوة بحرية كبرى تتاجر شرقاً وغرباً بمعية ذلك.
حسابات الخروج وتداعياته يتطلبان نبش قائمة طويلة. الأمر يهدد الوحدة الأوروبية، المتصدعة من تنامي موجة المعادين لها، ممثلة باليمين الشعبوي والمتطرف. الأمر أخطر على وحدة بريطانيا، مع وجود تباين حاد بين مقاطعاتها الأربع (ويلز، انكلترا، ايرلندا الشمالية، اسكتلندا) حول الموقف من عضوية التكتل الأوروبي، عدا عن موقف العاصمة لندن مع تفضيل غالبيتها الشيطان الذي تعرفه. كما أن الخروج ستكون له تداعياته على الحلف الأطلسي، مع وقوف بريطانيا الدائم ضد زيادة الاندماج الاوروبي عسكرياً على حساب «الناتو».
كل من معسكري الخروج والبقاء لديه قائمة مفحمة بالاسباب المسنودة لاتباع خياره. هناك الكثير من القضايا القابلة للجدل، علاوة على أن أياً منها ليس أبيض أو أسود بخلاف ما يطلب الاستفتاء. حدث مصيري مثل هذا كان يفترض أن يضع حقائق ودراسات أمام الناخب البريطاني، لكن الأمر ترك لأمزجة تنتقي من الاحصاءات ما يناسبها. وسط ذلك، يبدو أن استثمار حملة الخروج باللعب على «الأنفة» البريطانية ليس خاسراً، باعتباره موضوعاً عاطفياً لم يعف عليه الزمن، حتى وإن كانت صلاحيته منتهية. الأنفة التي ترفض أن يقال لها إنها غير قادرة على الانفصال والعيش لوحدها من جديد، تنتعش بذلك بدلاً من أن تتعظ به.
جريدة "السفير"