في ذكرى الثورة التونسية: دروس يجب الاستفادة منها

25.12.2016

   عندما يأتي السابع عشر من ديسمبر في كل سنة نتذكر ذكرى اندلاع الثورة التونسية يوم 17 ديسمبر 2010، هذه الثورة التي بدأها الشهيد "محمد البوعزيزي" دون أن يعلم أنه فجّر ثورات كانت خامدة في نفوس الشعوب العربية. فقد رحل عن الدنيا وهو لا يعلم أنه تسبّب في سقوط واحد من أكبر الزعماء المتسلطين والديكتاتوريين في العالم العربي، وهو الرئيس الهارب "زين العابدين بن علي" الذي أخذ السلطة في انقلاب أبيض على الزعيم الراحل "الحبيب بورقيبة" في أواخر سنة 1987، وبقي في الحكم إلى غاية هروبه من تونس يوم 14 جانفي 2011. وقد كانت هذه لحظة تاريخية كبرى، ليس لتونس فقط وإنما لجميع الدول العربية لأن ما بعد 14 جانفي 2011 يختلف جذريا عن ما بعده.

   لم يكن أحد يتصور أنه سيأتي يوم سيثور فيه شعب عربي ضد الحاكم المستبد، فكل الحكام العرب اطمأنوا على بقائهم في مناصبهم وأن الشعوب العربية يئست ولن تفكر في التغيير بعد ما شهدته الجزائر من مأساة خلال سنوات التسعينيات، وبعد ما شهده العراق من تدمير على اثر احتلاله من العراق. لكن الكل تناسى أن إتباع سياسة الغلق والتهميش، وتكريس ثقافة الإقصاء والاستبداد تؤدي مع مرور الوقت إلى تنامي الغضب الشعبي في السرية ثم تتحول فيما بعد إلى حركات احتجاجية في العلن سواء احتجاجا على تدهور الظروف الاجتماعية والمعيشية أو للمطالبة بتلبية مصالح فئات شعبية معينة كالعمال والمهنيين الخ. وبالفعل فإن ما حدث في تونس من انفجار ثوري على اثر وفاة "محمد البوعزيزي" بعد الظلم الذي تعرض له وقيامه بحرق نفسه أمام الملأ، هذه الحالة فجرت الغضب الشعب الذي كان مكتوما لدى التونسيين وأخرجته في شكل حركة ثورية لم يكن يتوقعها النظام الحاكم، ولم تكن تتوقعها حتى الأنظمة الحاكمة في أمريكا وأوربا التي كانت مكن أشد الحلفاء لنظام زين العابدين بن علي وتعتبره نموذجا للحداثة في شمال إفريقيا والشرق الأوسط.

   بناء على ما سبق ذكره، فإنه يجب علينا قراءة المسار الذي أخذته الثورة التونسية منذ سنة 2011، واستخلاص الدروس التي تسمح لنا بالاستفادة منها سواء هنا في الجزائر أو في بلد عربي آخر. ولهذا سأحاول أن أبيّن أهم الدروس المستفادة فيما يلي:

لم يعد هناك مجال لأي نظام حاكم في العالم العربي ممارسة الاستبداد المطلق أبد الدهر، ولم يعد هناك مجال للحاكم العربي أن يحتكر السلطة لنفسه مدى الحياة بحجة أن قدم خدمات وانجازات كبيرة لشعبه. فالشعوب سترضى عن هذه الانجازات لفترة مؤقتة وليس بصفة دائمة من جهة، ومن جهة أخرى بينت لنا الثورة التونسية أنه مهما سكتت الشعوب عن الظلم سيأتي جيل يرفض الاستبداد ويثور ضد الحاكم المستبد وهذه الحالة عبّر عنها رفض محمد البوعزيزي للظلم.

تعد فئة الشباب والطبقة الوسطى والنخب المثقفة هي الفاعل الأساسي في أي عملية تغيير ثوري ناجح وسلمي. فالنظام التونسي السابق كان ضحية سياساته التحديثية منذ عهد بورقيبة، والتي نتج عنها توسع الطبقة الوسطى التي تشكل 50 بالمائة من المجتمع التونسي، وفي نفس الوقت ارتفاع مستوى التعليم بكل مراحله في تونس أنتج نخبة مثقفة وواعية. وبالنسبة لعنصر الشباب، فقد استفادت هذه الفئة من مستويات التعليم الجيدة ومن احتكاكهم بالسياح الأجانب إضافة إلى استفادتهم من تكنولوجيا الاتصال والمعلوماتية وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي، بحيث اكتسبوا الوعي بقيم الحرية والديمقراطية التي مكنتهم من تشكيل كتلة محركة للتغيير وفي نفس الوقت إضفاء الطابع السلمي على الثورة التونسية.

لقد بيّنت لنا الثورة التونسية أن الاحتجاج الشعبي السلمي والذي لا يرتبط بحزب سياسي أو أي تنظيم معين، هو السلاح الناجح لإسقاط الحاكم المستبد، وهو الأقل تكلفة لإحداث التغيير، فالأنظمة الاستبدادية لا تخشى العنف وإنما تخشى الحراك الشعبي السلمي. وقد ظهر جليا أن لجوء النظام التونسي السابق لاستخدام العنف ضد المتظاهرين السلميين قد افقده مصداقيته أمام الرأي العام الداخلي والدولي. ونتيجة لذلك تعرّض لموجة من الضغوط والاستنكار جعلته في النهاية يرضخ لمطالب المتظاهرين.

إن عنصر المفاجأة وحيادية المؤسسة العسكرية كان لهما تأثيرا ايجابيا في مسار الثورة التونسية، فنظام زين العابدين بن علي فاجأته الأحداث وموجة الغضب التي انطلقت على اثر وفاة محمد البوعزيزي في "سيدي بوزيد" ثم توسعت رقعتها لتشمل مختلف مناطق تونس وبالتالي فالنظام الحاكم لم يجد الوقت الكافي للتعامل مع هذه الاحتجاجات. كما أن موقف الجيش التونسي المشرف الذي رفض إطلاق النار على المتظاهرين جعل النظام الحاكم في موقف ضعف وبدون حماية، ولهذا لم يجد الرئيس السابق زين العابدين مخرجا له سوى الهروب إلى الخارج.

ضرورة وجود مجتمع مدني حديث ومنظم يتولى دعم الحراك الثوري وتأطيره حتى لا يخرج عن مساره السلمي من جهة، ومن جهة أخرى يتولى هذا المجتمع المدني عملية الوساطة والتفاوض بين المتظاهرين والنظام الحاكم. وقد لاحظنا الدور الكبير الذي قام به اتحاد الشغل والاتحادات المهنية الأخرى لإنجاح الثورة التونسية.

يساعد الاندماج الاجتماعي على نجاح التغيير الثوري، فالمجتمع التونسي تنعدم فيه التعددية العرقية واللغوية والدينية، ولا وجود لأقليات لديها النزعة الانفصالية مما خلق حالة من الانسجام والتماسك بين مختلف مكونات المجتمع. وقد تعزز هذا العامل أكثر بافتقاد تونس للموارد الطبيعية والنفطية الضخمة مما جعلها بعيدة عن التنافس الدولي والتدخل الخارجي المباشر من طرف القوى الدولية، فتونس ليست بلدا مصدرا للنفط ولا تسيطر  على الممرات التجارية والبحرية الإستراتيجية. ولهذا حافظت الثورة التونسية على مسارها السلمي داخليا، وكانت في منأى عن التدخل الأجنبي خارجيا والذي اقتصر على إعلان المواقف الدولية تجاه استخدام العنف ضد المتظاهرين، وفيما بعد اكتفت الأطراف الدولية بمتابعة إدارة المرحلة الانتقالية ومحاولة توجيهها باستخدام أساليب الترغيب والضغط المرن، لاسيما من طرف فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية وقطر والجزائر.

علاوة على ما سبق ذكره، فإن أهم درس يجب تعلمه من التجربة التونسية هو الطريقة التي تمت بها إدارة المرحلة الانتقالية بعد نجاح الثورة في إسقاط رموز نظام زين العابدين بن علي، بحيث تم تشكيل حكومة مؤقتة ثم تفكيك البنى المؤسسية للنظام السابق وأهمها الحزب الحاكم. وبعد ذلك انتخب مجلس تأسيسي بطريقة ديمقراطية في 23 أكتوبر 2011، وبموجبه تشكلت حكومة ائتلافية وطنية، وانتخب رئيس جمهورية للمرحلة الانتقالية. وفي هذا السياق، يجدر القول أنه رغم فوز حركة النهضة بالانتخابات في أكتوبر 2011 إلا أنها فضلت اقتسام السلطة ولم تحتكرها لنفسها. ولاحظنا كذلك مساهمة مختلف التيارات السياسية في صياغة الدستور الجديد الذي تم إقراره مع بداية سنة 2014، ثم نجاح الانتخابات النيابية والرئاسية في النصف الثاني من العام  2014، والتي كرّست فوز حزب "نداء تونس" بالسلطتين التشريعية والتنفيذية، وهنا لاحظ الجميع احترام حركة النهضة لنتائج هذه الانتخابات وإقرارها بمبدأ التداول على السلطة.

   لقد استطاعت تونس من خلال ثورتها الناجحة أن تقدم نموذجا يحتذى به في تغيير النظام بطريقة سلمية، ثم إدارة المرحلة الانتقالية بفعالية، وصولا إلى إعادة بناء نظام سياسي جديد وفق القيم الديمقراطية وعبر انتخابات حرة ونزيهة. لكن رغم ذلك، مازال هناك مسارا طويلا حتى تكتمل التجربة التونسية في الانتقال الديمقراطي ومازالت في بدايتها، والسنوات القادمة ستبين لنا مدى قدرة التونسيين (سلطة ومعارضة) على الاستمرار في مسارهم التحولي وإنضاج تجربتهم والوصول إلى ديمقراطية مستدامة.

(المقال يعبر عن رأي كاتبه، ولا مسؤولية على هيئة التحرير)