المفهوم والنظرة الروسية لحل المشاكل الدولية: سوريا مثالا
أثار الموقف الروسي الأخير بسحب القوات الروسية العاملة في سوريا يوم الاثنين 14/3/2016 ردود أفعال متناقضة وتحليلات أكثر تناقضاً تحاول فهم السبب الرئيسي لهذا الإعلان الذي وصف من قبل الكثيرين بالمفاجئ. لقد أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن هذا الانسحاب وأعطى توجيهاته لوزير الدفاع ببدء سحب القوات العاملة الرئيسية اعتباراً من اليوم الذي يلي تاريخ الإعلان، كما وجه بنفس الوقت وزير الخارجية باستمرار العمل الدبلوماسي لإيجاد الحل السياسي للحرب في سوريا بما يضمن حقوق الشعب السوري بكل مكوناته .
لقد تم وصف القرار من قبل دول حلف شمال الأطلسي بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية بالأمر الإيجابي وأنه يؤسس لمزيد من التعاون فيما يخص الأزمة السورية. أما تلك الدول التي تدعم المعارضة السورية فقد ظهرت مواقفها الفعلية من خلال تصريحات المجموعات التي تمثلها في عملية التفاوض في جنيف وخاصة مجموعة الرياض. لقد أظهرت تصريحات العديد من الشخصيات في مجموعة الرياض حجم الخلاف الكبير بين فكر ونظرة هذه المجموعات التي اندمجت في مجموعة الرياض وبالتالي الدول الراعية لها وبين ما تمثله الدول التي تسعى لتحقيق التسوية في سوريا بما في ذلك الدول الأوربية التي تدعم المعارضة المعتدلة. أما الحكومة السورية فقد كان موقفها واضحاً بإعلان الرئاسة السورية التنسيق التام والمسبق مع الجانب الروسي.
وصرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عندما اتخذ قرار التدخل الروسي في سوريا في 30 أيلول عام 2015 بناء على طلب رسمي من حكومة الجمهورية العربية السورية بأن هدف هذا التدخل هو محاربة الإرهاب والحفاظ على مصالح روسيا الإستراتيجية بما يتناسب مع القانون الدولي. يشكل الإرهاب خطراً حقيقياً على مصالح روسيا الاتحادية، وقد قامت بعض الدول التي تدعم الإرهاب في سوريا بدعم مجموعات إرهابية في مناطق مختلفة من الإتحاد الروسي كما استطاعت من خلال ذلك الدعم استجرار العديد من الإرهابيين من تلك المناطق إلى سوريا, وهؤلاء سيشكلون خطراً على الأمن الروسي في حال عودتهم مع ما اكتسبوه من تدريب وخبرة في الساحة السورية.
لقد كرر الجانب الروسي وفي أكثر من مناسبة التأكيد على موقفه الاستراتيجي الثابت من خلال التصريحات المتعددة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بضرورة الالتزام بالقانون الدولي في حل جميع المشاكل الدولية، وأن يكون هذا القانون هو الحكم والمعيار وأكدوا على ضرورة الابتعاد عن المعايير المزدوجة في حل المشاكل الدولية. لقد ناضل الجانب الروسي كثيراً لإيصال هذا المفهوم الواضح والعادل من خلال المنظمات الدولية وخاصة الأمم المتحدة لتأسيس نظام عالمي عادل يعتمد مبادئ القانون الدولي ويجنب شعوب العالم الكثير من الحروب والويلات، وعلى الرغم أن روسيا لم تكن لوحدها في اعتماد هذا المفهوم وهذه النظرة لحل المشاكل الدولية, وعلى الرغم من وقوف الصين ودول منظمة شنغهاي إلى جانب روسيا في المحافل الدولية، فقد استمرت دول حلف شمال الأطلسي وبقيادة أمريكية باعتماد مفهومها الخاص ونظرتها العدائية لروسيا وحلفائها من خلال المحاولة الدائمة بتمرير قرارات تؤسس لاستمرار الهيمنة الأمريكية على العالم ولو أدى ذلك لاعتماد معايير مزدوجة في حل المشاكل الدولية.
كان التدخل الروسي العسكري في سوريا هو المحاولة الأولى من قبل روسيا وحلفائها لفرض المفهوم والنظرة الروسية بالقوة العسكرية. لقد كانت حسابات القيادة الروسية مدروسة ودقيقة عندما قررت التدخل العسكري في سوريا, فهي جاءت لتحارب ذلك الإرهاب الذي يحاربه العالم كله بما في ذلك الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي، فلا مجال لنكران حق روسيا في وضع مساهمتها ضد الإرهاب موضع التنفيذ فهي تريح العالم من شر مستطير وتحقق مصالحها الإستراتيجية في نفس الوقت بحماية أمنها القومي.
كانت القوى الأطلسية تراقب القوات الجوية والفضائية الروسية والقوات البحرية الروسية وهي تدمر الإرهاب بفاعلية منقطعة النظير, وتدرس في نفس الوقت هذه القوة الجبارة التي أثبتت أنها قوة دولة عظمى وليست قوة دولة إقليمية كما يحاول الأمريكان والأوروبيون أن يصفوها، فهي تتواجد في كل البحار المتاخمة للمنطقة وتسيطر على الجو سيطرة مطلقة. لقد فهم الغربيون هذه الرسالة فعلاً فاضطروا للقبول المؤقت بهذه الحقيقة التي فاجأتهم وجعلتهم يغيرون الكثير من حساباتهم عندما رأوا روسيا القطب العالمي الجديد الذي يستطيع أن يضع رؤياه موضع التنفيذ عندما تظهر الحاجة لذلك.
ولأن المفهوم والنظرة الروسية لكل الأزمات الدولية ليست نظرة توسعية استعمارية، ولأن الرسالة الروسية وصلت إلى من يهمه الأمر واضحة وقوية بعد أن حققت أهدافها المخطط لها بنجاح كبير، فقد قررت القيادة الروسية الانتقال إلى المرحلة الثانية أو لنقل إلى الدرس الثاني الذي تريد إيصاله إلى أولئك الغربيين ليستوعبوا المفهوم والنظرة الروسية الجديدة، فقررت سحب قواتها الرئيسية العاملة في سوريا معلنة ليس فقط عن تحقيق الأهداف المرجوة من التدخل وإنما وهذا الأهم أن روسيا تعتمد القانون الدولي والطرق الدبلوماسية لحل المشاكل الدولية، وكلفت وزير خارجيتها باستمرار العمل الدبلوماسي لإيجاد حل للحرب في سوريا بمشاركة جميع الأطراف لسورية التي لا تمارس الإرهاب ومؤكدة أن روسيا مع الشعب السوري وليست مع طرف ضد طرف بل هي مع القيادة الشرعية للبلاد، وستكون مستقبلاً مع أية قيادة مستقبلية ينتخبها الشعب السوري.
إن اعتماد المفهوم والنظرة الروسية على القانون الدولي ينبع من الاعتماد على منظومة القيم الروسية التي ترى في القيم الإنسانية دافعاً إضافياً لاعتماد الطرق السياسية لضمان الحقوق والحفاظ على المصالح الإستراتيجية، وهذا المفهوم يجنب العالم الكثير من الأزمات التي تسببها تلك النظرة الغربية المفرطة في المغالاة في تحقيق المصالح مهما كانت الطرق ملتوية ومهما كانت المعايير مزدوجة.
إن الأهداف الروسية تتجانس وتتناسب مع الأهداف السورية التي وضعتها الدولة السورية كهدف استراتيجي لحل الأزمة السورية، وذلك من خلال محاربة المنظمات الإرهابية التي تم إحضارها من كل أصقاع الكون بمساعدة دول في المنطقة مثل تركيا والسعودية وقطر وبلا شك بدعم من أمريكا وبعض الدول الغربية، ومن خلال اشتراك جميع السوريين في إيجاد حل ينهي الحرب ويؤسس لوطن لجميع أبنائه وينهي فصول هذا المخطط الإجرامي الذي دمر البشر والشجر والحجر في سوريا.
إن سحب القوات الروسية لن يكون الحلقة الأخيرة في عملية قد تطول لإنهاء الحرب في سوريا وليس مؤشراً على انسحاب روسي من الأزمة السورية، فالدولة الروسية التي قدمت شهداء على أرض سوريا لن تترك الشعب السوري قبل أن يصل إلى بر ألأمان وقد عاد إلى حياة الأمن والأمان يعيش جميع أبنائه في سلام ومحبة بكل فئاته، وهو الشعب المشهور بأصالته لن ينسى أن هناك دولة عظمى ما تزال تملك القيم الإنسانية على عكس دول أخرى من الغرب ومن الذين يدعون القرابة والأخوة، وسيذكر هذا الشعب السوري بافتخار أن له أصدقاء في دولة تملك مفهوماً جديداً ونظرة جديدة للقانون الدولي ولقيم الحب والسلام والإنسانية إنها روسيا الاتحادية.