زوبعة انسحاب روسيا من المحكمة الجنائية الدولية.. ما الذي تغير؟
جاء الإعلان عن سحب روسيا توقيعها من المحكمة الجنائية الدولية ردا على نشر تقرير المدعي العام الذي يدين ممارساتها في أوكرانيا، والأمر كخبر، انتشر في جميع أنحاء العالم - ولكن ما مدى أهمية هذا القرار؟
تناولت عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم في يوم 16 نوفمبر/تشرين الثاني، خبر انسحاب روسيا من المحكمة الجنائية الدولية، كما يلي: روسيا تقطع العلاقات مع المحكمة الجنائية الدولية، واصفة الأمر بأنه "من جانب واحد"، حسب ما جاء في صحيفة "نيويورك تايمز"، في حين عنون موقع قناة "الجزيرة" القصة "روسيا تنسحب من المحكمة الجنائية الدولية"، وجاء عنوان قناة "سي إن إن" يقول: "روسيا تخرج من المحكمة الجنائية الدولية، وقد تلحقها الفلبين".
بدأ الجدل الحالي بإصدار بيان عن وزارة الخارجية الروسية يعلن أن الرئيس فلاديمير بوتين قد وقع مرسوما مفاده أن روسيا لا تنوي أن تبقى طرفا في نظام روما الأساسي لعام 1998 للمحكمة الجنائية الدولية، وهو المعاهدة الدولية التي ترسي وتحدد عمل وصلاحيات المحكمة الجنائية الدولية. يأتي هذا الإعلان بعد يومين من صدور تقرير عن مدعي المحكمة الجنائية الدولية عن حالة تحقيقاتها الجارية، بما في ذلك ما يتعلق بضم روسيا لشبه جزيرة القرم و"إذكاء نار الصراع في شرق أوكرانيا في عام 2014"، وهو التقرير الذي انتقد هذه الممارسات.
في حين أن البلدان الأفريقية المعنية (غامبيا وجنوب أفريقيا، وبوروندي، وربما كثر في المستقبل مثل الفلبين) هي في الواقع أطرافا في المحكمة الجنائية الدولية، أما روسيا فليست كذلك. ورغم أن روسيا وقعت على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في 13 أيلول/سبتمبر 2000 (وهي الخطوة الأولى لتصبح دولة طرفا في المحكمة الجنائية الدولية) إلا أن روسيا لم تصادق أبدا على المعاهدة لتصبح طرفا كامل العضوية.
وبالتالي، فإن التحرك الروسي الأخير هو مجرد سحب توقيع روسيا من المعاهدة، حيث لم تعد الآن طرفا فيها. وبذلك تكون روسيا قد انضمت لإسرائيل والسودان (قبل أن ينقسم إلى دولتين)، والولايات المتحدة، وجميعها وقعت على نظام روما الأساسي في البداية ولكنها سحبت تواقيعها بعد ذلك، مشيرة إلى أنها لم تعد تعتزم التصديق على المعاهدة.
والمفارقة هي أنه، وبينما إعلان روسيا لا يلغي الوضع الروسي كمشارك في المحكمة الجنائية الدولية (وهي لم تكن مشاركة لتبدأ بذلك)، فإنه أيضا لن يسلب المحكمة الجنائية الدولية ولايتها القضائية على الممارسات الروسية في جورجيا وأوكرانيا. لذلك، ومن الناحية العملية الملموسة، كان التحرك الروسي مجرد لفت نظر أو إشارة.
المحكمة الجنائية الدولية - لمحة عامة
في أكتوبر/تشرين الأول من العام 1946 - وبعد وقت قصير من توجيه الأحكام ضد كبار مجرمي الحرب النازيين في نورمبرغ - دعا المؤتمر الدولي في باريس إلى اعتماد قانون جنائي دولي يحدد مفازات الجرائم ضد الإنسانية وإنشاء محكمة جنائية دولية من أجل فرض تطبيق أحكامه.
طفت فكرة إنشاء محكمة جنائية دولية على السطح لأول مرة بعد الحرب العالمية الأولى، وتم التخلي عنها إلى حد كبير خلال الحرب الباردة، ولكن تم احياؤها في عام 1989. واكتسبت مقترحات المحكمة الجنائية الدولية الدائمة زخما برعاية الأمم المتحدة لها بتخصيص محاكم حول قضية يوغوسلافيا السابقة (1993) ورواندا (1994). وفي عام 1994، تم إعداد مشروع النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وتم تقديمه للنظر فيه في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
شارك ممثلون من 160 دولة في المؤتمر الذي ترعاه الأمم المتحدة بشأن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية في روما في عام 1998. وفي ختام ذلك المؤتمر، صوتت الدول المشاركة بأغلبية ساحقة بالموافقة على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، حيث أنشأت المحكمة الجنائية الدولية وحددت الجرائم التي تدخل في اختصاصها.
بموجب المادة 126، دخل نظام روما الأساسي حيز التنفيذ بعد أن صادقت عليه ستين دولة، وهو ما حدث في الأول من يوليو/ تموز 2002. حتى الآن، وقعت وصادقت 124 دولة على نظام روما الأساسي، مشاركين بشكل كامل في أعمال المحكمة الجنائية الدولية. كما وقعت 31 دولة أخرى، ولكنها لم تصادق على نظام روما الأساسي.
ووفقا للمادة 5 من نظام روما الأساسي، يقتصر نطاق عمل المحكمة الجنائية الدولية على أربع بنود "أشد الجرائم خطورة التي تقع ضمن اهتمام المجتمع الدولي ككل." وتشمل قائمة الجرائم: الإبادة الجماعية، الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، وأعمال العدوان".
المحكمة الجنائية الدولية، والتي مقرها مدينة لاهاي الهولندية، تتألف من 18 قاضيا تنتخبهم الدول الأعضاء في هيئة المحكمة الجنائية الدولية. بالإضافة إلى ذلك، تشتمل المحكمة الجنائية الدولية على مكتب المدعي العام، وهو جهاز مستقل ومنفصل عن المحكمة الجنائية الدولية ومسؤول عن بدء وإجراء التحقيقات وملاحقة الانتهاكات المزعومة لنظام روما الأساسي. ويتم انتخاب المدعي العام أيضا من قبل الدول الأعضاء.
تحقيقات المحكمة الجنائية الدولية المتعلقة بروسيا
إحدى المسؤوليات الرئيسية لمكتب المدعي العام في المحكمة هو إجراء التحقيقات الأولية لتحديد ما إذا كان وضع معين يحقق المعايير المحددة في نظام روما الأساسي لإجراء تحقيق رسمي، وربما الملاحقة القضائية.
ويمكن الشروع بتلك التحقيقات الأولية بناء على معلومات مقدمة إلى النائب العام من قبل أفراد أو جماعات أو دول، أو من قبل منظمات حكومية دولية أو غير حكومية. وقد يتم إحالة الدعوات أيضا إلى المحكمة الجنائية الدولية أيضا من قبل الدول التي هي أطراف في نظام روما الأساسي، ومجلس الأمن الدولي، فضلا عن الدول التي وافقت على أحكام المحكمة الجنائية الدولية.
في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، أصدر المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، الغامبي فاتو بنسودا، تقريرا سنويا عن أنشطة التحقيق الأولية. ووفقا لهذا التقرير، في الفترة من 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2015 حتى 30 سبتمبر/أيلول 2016، تلقى مكتب المدعي العام "477 اتصالا متعلقا [بالملاحقات القضائية المحتملة ومنها 356 كانت خارج اختصاص المحكمة بشكل واضح، في حين استدعى 28 منها مزيدا من التحليل؛ وكانت 72 منها مرتبطة بدعاوي لا تزال بالفعل قيد المتابعة وتمت إحالة 21 منها إلى التحقيق أو الملاحقة".
وتضمن التقرير الصادر في عام 2016 حول التحقيقات الأولية مناقشات موسعة لتسع حالات مختلفة, إحداها فقط كان حول - مزاعم من أوكرانيا - تخص روسيا. في حين أن أوكرانيا ليست دولة عضوا في المحكمة الجنائية الدولية – إذ وقعت على نظام روما الأساسي في يناير/كانون الثاني عام 2000، ولكن لم تصادق عليه - وكانت قادرة على القبول رسميا بأحكام المحكمة الجنائية الدولية لأغراض هذا التحقيق والذي وفقا لذلك، يتضمن مجال عمل المحكمة الجنائية الدولية المتعلق بجرائم (على النحو المحدد في نظام روما الأساسي) ارتكبت في أوكرانيا بعد 21 نفمبر/تشرين الثاني 2013، وهو التاريخ الفعلي لقبول أوكرانيا بأحكامها.
بدأت التحقيقات الأولية للمحكمة الجنائية الدولية في دعوى أوكرانيا في 25 أبريل/نيسان 2014. وحسب المدعي العام فاعتبارا من تقريره الصادر في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، فقد تم جمع القائمة الأولية التالية للجرائم المزعومة. وتشمل التحرش بسكان القرم من التتار، قتل واختطاف 10 أشخاص على الأقل في شبه جزيرة القرم، سوء معاملة الأفراد الذين اعتقلوا أو اختطفوا في شبه جزيرة القرم.
تحتوي القائمة أيضا على اعتقال معارضين لضم روسيا شبه جزيرة القرم، والقتل نتيجة الأعمال العدائية المسلحة في شرق أوكرانيا، وتدمير الأملاك المدنية والاستيلاء على بعضها إضافة إلى الاعتقالات وسوء المعاملة والتعذيب، وإخفاء أشخاص في شرق أوكرانيا، وأخيرا الجرائم الجنسية في شرق أوكرانيا.
وقد أنشأ مكتب المدعي العام قاعدة بيانات لأكثر من 800 حادثة تم الادعاء أنها حدثت في أوكرانيا منذ 20 فبراير/شباط 2014. وأعلن مكتب المدعي العام أنه سيتابع التحقيق لتحديد ما إذا كان الوضع في أوكرانيا يقع ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
بالإضافة إلى التحقيقات الأولية في الوضع في أوكرانيا، فقد أجرى مكتب المدعي العام أيضا تحقيقا في الوضع في جورجيا في عام 2008، لتحديد ما إذا تم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية حينها في أوسيتيا الجنوبية وحولها. والجرائم التي هي موضوع هذا التحقيق جميعها وقعت داخل أراضي جورجيا المعترف بها دوليا، والتي هي طرف في نظام روما الأساسي.
وكان هذا التحقيق جاريا منذ أغسطس/آب 2008. وقد تم الانتهاء من التحقيق الأولي في يناير/كانون الثاني 2016، في الدائرة التمهيدية للمحكمة الجنائية الدولية والذي رأى "أساسا معقولا للاعتقاد بأن الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة" ارتكبت على أراضي جورجيا في أوسيتيا الجنوبية في عام 2008. وتضمنت قائمة الجرائم: القتل والتهجير للسكان والاضطهاد وتدمير ممتلكات الجورجيين على يد قوات أوسيتيا الجنوبية، والهجمات المتعمدة على قوات حفظ السلام، سواء من جانب قوات أوسيتيا الجنوبية ضد قوات حفظ السلام الجورجية أو من قبل القوات الجورجية ضد قوات حفظ السلام الروسية. وهذا التحقيق ما زال جاريا.
أشار البيان الصادر عن وزارة الخارجية الروسية في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 2016 تحديدا إلى التحقيق في الأحداث التي وقعت عام 2008 في جورجيا، مشيرا إلى أنها كانت منحازة لصالح المصالح الجورجية، ليخلص إلى "أننا بالكاد نثق بالمحكمة الجنائية الدولية في مثل هذه الحالة".
وعدا عن توجيه انتقاد للمحكمة الجنائية الدولية، فإن ردة فعل روسيا الأخيرة بشأن المحكمة الجنائية الدولية لم تغير شيئا. حيث أن روسيا ليست عضوا في المحكمة الجنائية الدولية، لذلك لا يشكل انسحابها من المحكمة أثرا ملحوظا. وعلاوة على ذلك، وبما أن التحقيقات الجارية في أعمال وقعت في أوكرانيا وجورجيا – وهي دول قبلت باختصاص المحكمة الجنائية الدولية – فإن التحقيقات ستمضي قدما (وإن كان ذلك، يفترض تعاونا روسيا محدودا أو معدوما).