الصين تلقي بثقلها الدبلوماسي وراء فلسطين الواحدة

الجميع في المستقبل المنظور سيلاحظون أن هذا هو "إعلان بكين" الذي يدعم بوضوح فلسطين الواحدة
الجميع في المستقبل المنظور سيلاحظون أن هذا هو "إعلان بكين" الذي يدعم بوضوح فلسطين الواحدة
29.07.2024

توقيع إعلان بكين في وقت سابق من هذا الأسبوع ليس انجازًا دبلوماسيًا صينيًا مذهلًا آخر فحسب. إذ يؤكّد نفوذ بكين في الشؤون الدولية وقدرتها على إقناع الأطراف المختلفة بالتعاون، مع نيلها التزامًا من ممثلي 14 فصيلًا فلسطينيًا بالمصالحة وإنهاء الانقسامات في ما بينها. كما تظهر أن الطريق لبدء حل المشاكل الجيوسياسية المستعصية لم يعد أحاديًا، بل أصبح متعدّد الأقطاب ومتعدّد مراكز التأثير، ومن بينها الصين، العضو البارز في "بريكس" ومنظمة شانغهاي للتعاون، كلاعب مؤثّر لا يمكن تجاهله.

بعد التقارب بين إيران والمملكة العربية السعودية وتوقيع إعلان بكين، أصبح مفهوم الصين كقوة عظمى صانعة للسلام راسخًا إلى درجة أن يختار وزير الخارجية الأوكراني كوليبا إبلاغ نظيره وانغ يي في بكين بأن كييف أصبحت مستعدة أخيرًا للتفاوض على وضع نهاية للحرب بالوكالة بين حلف شمال الأطلسي وروسيا في أوكرانيا.

الفلسطينيون الذين حضروا إلى بكين كانوا سعداء للغاية. بالنسبة إلى نائب رئيس حركة فتح، محمود العالول، "الصين هي نور. وما يشبه جهود الصين أمر نادر على الساحة الدولية". فيما قال المتحدّث باسم حماس، حسام بدران، إن الحركة قبلت دعوة الصين "بروح إيجابية ومسؤولية وطنية". وأضاف أن جميع الفصائل الفلسطينية وصلت إلى توافق بشأن "مطالب الفلسطينيين لإنهاء الحرب"، وأن "الجزء الأكثر أهمية" في الإعلان هو تشكيل حكومة توافق وطني فلسطيني لـ "إدارة شؤون أهالي غزة والضفة الغربية، والإشراف على إعادة الإعمار، وتوفير الظروف المناسبة لإجراء انتخابات".

مبادرة "الخطوات الثلاث" الصينية

كان وانغ يي مباشرًا، إذ أكّد أن "القضية الفلسطينية هي جوهر قضية غرب آسيا". وقال إنه "ليست لدى الصين أي مصلحة أنانية في القضية الفلسطينية. وكانت الصين من أولى الدول التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية ودولة فلسطين، ودعمت بشكل ثابت ودائم الشعب الفلسطيني لاستعادة حقوقه الوطنية المشروعة. ما نهتم به هو الأخلاق، وما ندعو إليه هو العدالة".

ما لم يقله وانغ - ولم يكن عليه أن يقوله - هو أن هذا يمثّل الموقف الساحق لمجموعة "بريكس+"، وتتقاسمه الأغلبية العالمية، بما في ذلك، بشكل حاسم، كل أراضي الإسلام.

كل الأهمية تكمن في التسمية، الجميع في المستقبل المنظور سيلاحظون أن هذا هو "إعلان بكين" الذي يدعم بوضوح فلسطين الواحدة.

ولا عجب أن كل الفصائل اضطرت للارتقاء إلى مستوى الحدث، فالتزمت بدعم حكومة فلسطينية مستقلة تتمتع بسلطات تنفيذية على غزة والضفة الغربية، ولكن، وهنا المشكلة، فور انتهاء الحرب التي يريد النظام في تل أبيب إطالة أمدها إلى أجل غير مسمى.

ما لم يشر إليه وانغ يي بوضوح إلى حد ما هو أن موقف الصين التاريخي الثابت الداعم لفلسطين قد يكون عاملًا حاسمًا في مساعدة مؤسسات الحكم الفلسطينية في المستقبل.

وتقترح بكين للوصول إلى هذا الهدف ثلاث خطوات، وهي باختصار:

1. وقف إطلاق النار "الشامل والدائم والمستدام" في قطاع غزة في أقرب وقت ممكن، و"ضمان وصول المساعدات الإنسانية والإغاثية على الأرض".
2. بذل "جهود مشتركة" - بافتراض المشاركة الغربية - نحو "حكم غزة في مرحلة ما بعد الصراع في ظل مبدأ الفلسطينيون يحكمون فلسطين". ومن الأولويات الملحة البدء في عملية إعادة الإعمار "في أسرع وقت ممكن". وتشدد بكين على أنه يتعين على "المجتمع الدولي دعم الفصائل الفلسطينية لتشكيل حكومة انتقالية تحظى بإجماع وطني لإدارة فعالة لغزة والضفة الغربية".

3. تشجيع فلسطين على أن "تصبح دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة" وبدء تنفيذ حل الدولتين. وتصر بكين على "دعم عقد مؤتمر سلام دولي أكثر أهمية ومصداقية وفعالية، ووضع جدول زمني وخريطة طريق لحل الدولتين".

رغم كل الأهداف النبيلة - خصوصًا عندما يكون واضحًا أن إسرائيل دفنت حل الدولتين بحكم الأمر الواقع - فإن الصين على الأقل تقترح بشكل مباشر ما تعتبره الأغلبية العالمية بالإجماع نتيجة عادلة.

ومن المهم الإشارة إلى أن دبلوماسيين من دول أعضاء في مجموعة "بريكس"، كروسيا وجنوب أفريقيا ومصر والمملكة العربية السعودية، حضروا توقيع الإعلان، إلى جانب دبلوماسيين من الجزائر وقطر والأردن وسوريا ولبنان وتركيا.

الإبادة الجماعية لاستعادة العافية

والآن، لنقارن بين الانقلاب الدبلوماسي الذي حققته الصين وبين الكونغرس الأميركي الذي صفق وقوفًا 58 مرة لمضطرب نفسيًا تلمودي يروّج لفكرة الإبادة الجماعية كعلاج يعيد العافية.

ترحيب الأبطال الذي بقيه بيبي نتنياهو في واشنطن يأخذ مفهوم الاضطرابات النفسية الجماعية إلى آفاق جديدة. ومع ذلك فإن التواطؤ في الإبادة الجماعية في غزة لا يشكل استثناءً عندما يتعلق الأمر بالقيادة السياسية الأميركية.

وقد كانت "النخب" السياسية للهيمنة - بمساعدة فرنسية وبريطانية - شريكة نشطة في دعم القصف والحصار السعودي الطويل ضد الحوثيين، والذي تسبب في مقتل عدد أكبر من المدنيين مقارنة بغزة. ولم تنته المجاعة في اليمن بعد. وقد كانت هذه حربًا غير مرئية تماماً في أنحاء الغرب الجماعي.

على الأقل، انتهى الأمر بتدخّل العدالة الكونية: فقد عزّزت الصين التقارب بين المملكة العربية السعودية وإيران، وأصبحت الرياض عضوًا في مجموعة بريكس+ وانخرطت بشكل فعال في الجهود الرامية إلى تقليل الاعتماد على الدولار (مرحبًا بالبترويوان).

علاوة على ذلك، تمكّن الحوثيون بمفردهم من إذلال البحرية الأميركية. جاء "الانتقام" الأميركي البريطاني بفتح جبهة حرب أخرى، وقصف منشآت الحوثيين لحماية السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر.

وبقدر ما يستمر اليمن في خوض حرب على جبهتين – ضد الهيمنة وإسرائيل، مع الحفاظ على الحذر من أي حيل محتملة من السعودية – لا تزال فلسطين تتعرض للتدمير على يد إسرائيل بدعم كامل من الهيمنة. ولن يعني إعلان بكين شيئاً إذا لم يتم تنفيذه. ولكن كيف؟

إذا افترضنا نجاحًا جزئيًا، فقد يكون الإعلان قادرًا على إعاقة الإفلات المطلق من العقاب لتل أبيب وواشنطن، لأن العثور على حكومة فلسطينية متعاونة لإدامة الاحتلال سيكون أكثر صعوبة.

والآن تدين كافة الفصائل الفلسطينية بدين كبير للصين؛ ولا بد من وقف المشاحنات الداخلية، وإلا فإن ذلك سيعني خسارة خطيرة لماء ماء وجه بكين.

في الوقت نفسه، يبدو أن القيادة الصينية تدرك تمامًا أن هذا الرهان هو رهان كل دول الجنوب العالمي، ما يكشف نفاق الهيمنة للعالم بأسره. تمامًا كما كانت الحال في الصفقة السعودية - الإيرانية التي أُبرمت في بكين، فإن المشهد لا يمكن أن يكون أكثر تبشيرًا بمستقبل واعد، مقارنة برفض إسرائيل وأميركا وقف إطلاق نار فعلي.

الوحدة الحقيقية لفلسطين ستمنح قوة إضافية لكل مبادرة عالمية، في الأمم المتحدة، والمحكمة الدولية، وأماكن أخرى.

لكن كل ما سبق يبدو ضئيلًا مقارنة بالحقائق المروعة على الأرض. إذ يواصل مرتكبو جرائم الإبادة الجماعية التلموديون المضطربون نفسيًا - المدعومون بالكامل من "القيادة" السياسية الأميركية - في تحقيق ما يريدونه حقًا: القتل الجماعي الصريح والتطهير العرقي لعدد لا يحصى من الفلسطينيين، وهو الأمر الذي ينبغي من الناحية النظرية أن يؤدي إلى أغلبية ديموغرافية مطلقة لإسرائيل المتوسعة التي تسرق الأراضي الفلسطينية.

هذه المأساة لن تنتهي في أي وقت قريب. إعلان بكين لن يجعلها تتوقف. هذا لن يحدث إلا إذا أرادت الهيمنة إيقافها. في غضون ذلك، ما نحصل عليه من واشنطن هو 58 تصفيقًا حارًا للإبادة الجماعية.

المصدر